من أبرز ما يميز التشريع الإسلامي عن غيره من النظم، أنه لم ينزل دفعة واحدة، بل جاء متدرجًا على مدى ثلاث وعشرين سنة، وفقًا لحكمة ربانية دقيقة تأخذ بعين الاعتبار الواقع البشري والنفسي والاجتماعي للناس. لم يكن التشريع مجرد أوامر ونواهٍ، بل كان رحلة تربوية تتنقل بالإنسان خطوة بخطوة نحو الكمال الروحي والسلوكي.
ما هو التدرج في التشريع؟
التدرج يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يُلزِم الناس بالأوامر الدينية دفعة واحدة، بل شرّع الأحكام شيئًا فشيئًا، بحسب المرحلة الإيمانية التي يمر بها المسلمون. فكان التشريع يبدأ غالبًا بالتهيئة النفسية، ثم يليه التوجيه، ثم يأتي الأمر النهائي أو التحريم الصريح.
أمثلة على التدرج
“قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ…” (البقرة: ٢١٩)
– ثانيًا: نُهوا عن الصلاة وهم سكارى:
(النساء: ٤٣) …”لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى“
– ثالثًا: التحريم القاطع:
(المائدة: ٩٠)“إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ… رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ”
في بداية البعثة، كانت الصلاة مرنة من حيث عدد الركعات والأوقات، ثم استُقرت على الصلوات الخمس في حادثة الإسراء والمعراج.
في أول الإسلام، كان الحث على الإنفاق عامًا وترغيبًا بالصدقات، ثم جاءت تفاصيل الزكاة ومقاديرها بالتدريج بعد قيام الدولة في المدينة.
لماذا التدرج؟ الحكمة من ذلك:
مراعاة الفطرة البشرية
الإنسان بطبعه لا يتحول فجأة، والتغيير الفوري قد يخلق نفورًا أو مقاومة. فكان التدرج رحمة من الله بعباده.
بناء الإيمان قبل التكليف
مكث النبي ﷺ في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو للتوحيد، ويُربي على الإيمان قبل أن تُفرض أكثر التكاليف الشرعية. فكان القلب مستعدًا قبل الجسد.
تهيئة المجتمع
كثير من الأحكام نزلت بعد أن تكوّن مجتمع إسلامي مستعد لاستقبالها. مثلًا، أحكام المواريث أو الحدود نزلت بعد قيام الدولة.
دروس نستلهمها اليوم
في التربية: لا تطلب الكمال دفعة واحدة، بل علّم الناس خطوة بخطوة
في الدعوة: ركّز أولًا على ترسيخ العقيدة، ثم السلوك، ثم الأحكام
في تغيير النفس: لا تثقل على نفسك بأعباء كثيرة دفعة واحدة، بل اجعل علاقتك مع الله تتدرج بوعي وثبات
خاتمة
التدرج في التشريع لم يكن ضعفًا في الموقف، بل قوة في الفهم الإلهي لطبيعة الإنسان. وقد أظهر الإسلام من خلاله كيف يكون التغيير الجذري ممكنًا عندما يُبنى على الحكمة، الرحمة، والصبر.
إذاً، لا عجب أن ينتج عن هذا التشريع أجيالًا حملت نور الإسلام إلى العالم، لأنهم تدرجوا مع القرآن، فنضجت أرواحهم كما نضجت عقولهم.