على أطراف مكة، في ليلٍ يسوده الصمت وتغلفه القسوة، تحركت قدما رجلٍ واحد يحمل بين ضلوعه أكثر مما تحمله الصناديق من ذهب. لم يكن يحمل زادًا كثيرًا، ولا رفقة تُؤنسه، بل حمل قلبًا امتلأ يقينًا بأن الرزق ليس في المال، بل في الطريق إلى الله.
ذلك الرجل كان صهيب الرومي عبدٌ هارب من بطش الروم، تاجرٌ ناجح في مكة، وصاحب ابتسامة عريضة يخفي خلفها حكاية عمرٍ من الغربة والبحث. ولما بزغ فجر الإسلام، آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم دون تردد، وقرر أن يبيع الدنيا ليشتري الآخرة.
فلما جاءت ساعة الهجرة، اعترضه كفار قريش، لا ليسجنوه، بل ليأخذوا ما بقي من ماله الذي جمعه بعد مشقة سنين. لم يتردد صهيب، بل قال لهم بثبات:
“إن دللتكم على مالي، أتخلون سبيلي؟“
قالوا: نعم.
قال: “إِنَّي قَدْ جعلْتُ لكم مالي.”
ترك لهم المال، ومضى وحيدًا، لا يحمل شيئًا إلا يقينه بالله.
فلما وصل إلى المدينة المنورة، استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهٍ باسم وقال:
ربح صهيب”
رواه الحاكم وصححه، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية.
أي ربح أعظم من هذا؟
صهيب لم يربح مالًا، بل ربح ما لا يُشترى بثروة:
رضا الله، وصحبة نبيه، ومكانة خالدة في التاريخ.
هذا هو الرزق في الإسلام، لا يُقاس بكثرة المال، بل بصفاء القلب، ونية السعي، والبركة في القليل.
قال الله تعالى:
{وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها} [هود:٦}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
“لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا.” رواه الترمذي
الإسلام لا يمنع السعي، بل يحث عليه، لكنه يعلمنا أن الرزق ليس في الأرقام، بل في الثقة بمن بيده مفاتيح السماء.
وما بين عربة طعام صغيرة، أو تجارة كبرى، أو حتى فُتات الخبز، هناك رزقٌ كُتب لك، لن يأخذه غيرك، ولن تتقدم عنه لحظة. فقط امضِ، كما مضى صهيب، واترك الباقي على الرزّاق.