في زمن تتسارع فيه القرارات وتتزاحم المبادرات، يغفل كثيرون عن القيمة العميقة لـ التمهيد الذكي، وجمع المعطيات، وفهم البيئة قبل التحرك. لكن عندما نعود إلى السيرة النبوية، نجد في تصرف النبي محمد ﷺ قبل الهجرة إلى المدينة درسًا خالدًا في التخطيط الاستراتيجي المبني على الرؤية والمعرفة الدقيقة بالواقع.
فحين اشتد الأذى على المسلمين في مكة، لم يكن قرار الهجرة عشوائيًا، ولا رد فعل عاطفي، بل كان ثمرة مرحلة تحضيرية ناضجة، أرسل فيها النبي ﷺ من يمثّله إلى المدينة المنورة لتهيئة الأرض، والتأكد من قابلية المجتمع هناك لاحتضان هذا التحوّل الكبير
مصعب بن عمير: مبعوث الوعي قبل الهجرة
بعث النبي ﷺ الصحابي مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة، في مهمة لم تكن دعوية فقط، بل كانت استطلاعية واجتماعية وتربوية. ذهب مصعب ليعيش بين الناس، يستمع إليهم، يتحدث بلغتهم، ويتعرّف على طبقات المجتمع من الداخل. وخلال فترة وجوده، استطاع أن يُحدث تحوّلًا نوعيًا في مجتمع المدينة، وأسلم على يديه كبار القوم، مثل سعد بن معاذ وأُسيد بن حضير، وكان لذلك الأثر الأكبر في تيسير الهجرة واستقبال النبي ﷺ بعد ذلك.
فقه التمهيد: رؤية إدارية مبكرة
هذه المرحلة التي قد يعتبرها البعض تفصيلًا ثانويًا، هي في الحقيقة واحدة من أعظم مراحل التخطيط في سيرة النبي ﷺ. فقد اختبر الواقع، وبنى قاعدة بشرية مؤمنة ومتفهمة، ودرس العلاقات القبلية داخل المدينة، ومهّد لفكرة إقامة مجتمع جديد يقوم على قيم الإسلام دون صدام أو فجائية.
قال الله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ آل عمران: ١٥٩
وهذا أصلٌ في المشاورة وجمع الرؤية قبل اتخاذ القرار، وهو ما فعله النبي ﷺ على أكمل وجه.
تشير كتب السيرة النبوية إلى أن النبي ﷺ أرسل مصعب بن عمير مع أهل بيعة العقبة الأولى، ليقوم بتعليم الإسلام، وتلاوة القرآن، وبناء قاعدة معرفية واجتماعية تمهيدًا للهجرة. وقد نجح في مهمته نجاحًا كبيرًا، حيث أسلم على يديه عدد من كبار أهل المدينة، مما جعلها مهيّأة لاستقبال النبي ﷺ بعد عامٍ واحد فقط.
ماذا نتعلّم اليوم من هذا النموذج؟
١. لا تتخذ قرارًا مصيريًا دون التحقق من الواقع
الهجرة لم تبدأ بالانتقال، بل بدأت بفهم المجتمع الجديد، ومعرفة تحدياته وفرصه. هذا يشبه ما نسمّيه اليوم “الدراسة الميدانية” قبل دخول سوق أو بيئة جديدة.
٢. التحضير أعمق من التنفيذ
مصعب بن عمير لم يكن قائدًا سياسيًا، لكنه لعب دورًا حاسمًا في تأسيس المجتمع الذي سيستقبِل الرسول ﷺ لاحقًا. هذا يُذكّرنا بأهمية فرق العمل التي تمهّد لأي تحوّل كبير في المؤسسات أو المجتمعات.
٣. القيادة لا تبني على الحماسة فقط، بل على البصيرة
النبي ﷺ لم يتحرك إلا بعد أن عرف أن المدينة صارت مستعدة، لا بالشعارات، بل بالتغيير الداخلي الذي بدأ من الأفراد حتى وصل إلى الزعماء.
ختام:
الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت نموذجًا عبقريًا في إدارة التحوّل، وبناء المجتمعات، واتخاذ القرار على أسس معرفية واقعية.
تُرَكِّز السيرة على الخطوات التي سبقت لحظة الانطلاق، لأن النجاح الحقيقي يبدأ قبل أن تبدأ.