سيدنا سليمان عليه السلام ليس مجرد نبي عظيم، بل هو نموذج نادر جمع بين صفات قلّما تجتمع في إنسان واحد: النبوة، والملك، والعلم، والعدل، والقدرة الخارقة التي لم تُمنح لأحد بعده.
تتجلّى شخصيته في القرآن الكريم من خلال مشاهد متعددة، تؤسس لفهم عميق لما تعنيه القيادة الحقيقية حين تُنيرها النبوة، ويضبطها الإيمان.
الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده
في لحظة تواضع أمام الله، توجّه سليمان عليه السلام بالدعاء قائلًا:
“قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ” (ص:٣٥)
لم يكن هذا الدعاء رغبة في التميّز الدنيوي أو استعلاء على البشر، بل حرصًا على أن يكون ملكه فريدًا في عدالته وقدرته، حتى لا يستخدمه أحد من بعده في الظلم أو الفساد. فجاء الجواب الإلهي سريعًا، فوهبه الله ملكًا عظيمًا، سُخّرت له فيه الرياح، والجن، والطيور، والحيوانات، بل وحتى القوى الخارقة للطبيعة.
المعجزات.. أدوات للحق لا للترف
أُعطي سليمان من المعجزات ما لم يُعطَ نبي قبله، لكن اللافت في عرضها القرآني أنها لم تكن يومًا وسيلة استعراض أو ترف، بل أدوات لتنفيذ أمر الله وتحقيق مصالح الناس.
كان الهدهد، على سبيل المثال، رسولًا استخباراتيًا كشف حال قوم سبأ الذين كانوا يسجدون للشمس، وأوصل الرسالة إلى النبي، فبدأ حوار حضاري راقٍ مع ملكتهم بلقيس، انتهى بإسلامها لا بإهلاكها. حتى الجن، وهم كائنات خارقة، سخّرهم لبناء المساجد والقصور والغوص في البحار والعمل لاختراع الأسلحة، وليس للتسلية أو السيطرة فقط.
عدالة نبي وقوة قائد
رغم ما أُوتي من قوة وسلطان، ظلّ سليمان عليه السلام حاكمًا عادلًا متواضعًا، يُحكم بالعقل، ويسمع لأصوات من هم في أقصى درجات الضعف. نملة صغيرة حذّرت قومها من قدوم جيشه فقال:
“فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ”
(النمل: ١٩ )
كما أن من أبرز مواقفه موقفه في قضية الغنم التي أكلت الزرع، إذ حكم حكمًا فيه بديل إبداعي عادل يخدم الطرفين، فعدّله الله عن حكم والده داوود، وقال:
“فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا” (الأنبياء: ٧٩)
التوازن: القوة في خدمة التوحيد
لم تفتن سليمان عليه السلام عظمته، ولا ملكه، ولا تسخير المخلوقات له، بل ظلّ قلبه معلقًا بالتوحيد، وجوهر رسالته هو الهداية لا السيطرة. ففي قصة بلقيس، نراه يختبرها بحكمة، ويدعوها للحق دون قتال، حتى إذا أيقنت بالأمر قالت:
“رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (النمل: ٤٤)
لقد قدّم سليمان نموذجًا لنبي قويّ لا يستخدم القوة لفرض الهيبة، بل لبناء الحق وحماية التوحيد.
دروس من نبي لا يتكرّر
قصة سيدنا سليمان عليه السلام في القرآن ليست مجرد سرد لتاريخ ملوك الأنبياء، بل هي درس في القيادة الربانية، التي توفّق بين الحزم والرحمة، بين القوة والعدل، بين المعجزة والواقعية.
في زمن تتشابك فيه مفاهيم القوة والنفوذ والسيطرة، يُعيدنا القرآن إلى نبيٍّ علّق كل مجده بقوله:
” هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي “