أثر وحكمة

مقـالات

July 12, 2025
قصة بني النضير: حين سقطت الأقنعة وكشف الله الغدر - 38050

حين هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، لم يغفل عن وضع أسس التعايش مع مكوّناتها المتنوعة. فأبرم مع اليهود من أهل المدينة، ومنهم قبيلة بني النضير، اتفاقًا واضحًا في وثيقة المدينة، يضمن لكل طرف الأمن والحرية في مقابل الوفاء بالعهد وعدم الغدر. كان بنو النضير يعيشون في حصون منيعة، ولهم أموال وتجارات وعلاقات سياسية قوية، فتعايشوا ظاهريًا مع المسلمين فترة من الزمن، لكن قلوبهم بقيت مليئة بالحسد والكراهية للإسلام، لا سيما بعد انتصاراته وانتشاره.

بعد غزوة أحد، حين رأى بعضهم أن شوكة المسلمين ربما ضعفت، عاد الطمع إلى نفوس بني النضير، فتحركت مخططاتهم وتحالفاتهم السرية مع المشركين وأعداء المدينة. حاولوا إثارة الفتن وزرع الخوف، حتى وصل بهم الأمر إلى أخطر خطوة: التخطيط لاغتيال النبي ﷺ. فقد خرج النبي ﷺ ذات يوم إلى بني النضير يطلب منهم أداء دية قتيل كان بينهم وبين المسلمين عهد على دفعها، فاستقبلوه بترحيب كاذب، وأجلسوه قريبًا من جدار حصنهم، وبدأوا يدبّرون خطة لإسقاط حجر ضخم عليه ليقتلوه غدرًا.

لكن رحمة الله كانت حارسةً لنبيه، فأنزل الوحي يخبره بنيّتهم، فقام ﷺ فورًا دون أن يشعروا، وعاد إلى المدينة سالمًا. عندها بعث إليهم رسولًا يأمرهم بالرحيل عن المدينة خلال عشرة أيام، جزاء نقضهم العهد وخيانتهم الخطيرة. رفض بنو النضير الاستسلام، وتحصّنوا في حصونهم العالية يظنون أنها مانعتهم من غضب المسلمين. لكن النبي ﷺ فرض عليهم حصارًا محكمًا، قطع عنهم الطعام والمؤن، وأرسل إليهم جيشًا أظهر قوة وهيبة الدولة الإسلامية الفتيّة، فاضطروا بعد ست ليالٍ من الحصار إلى الاستسلام والجلاء عن ديارهم.

سمح لهم النبي ﷺ بالخروج بما تستطيع إبلهم حمله من الأموال والأمتعة، شرط ألا يأخذوا معهم سلاحًا، فخرجوا مهزومين يجرّون أمتعتهم، يهدمون بيوتهم بأيديهم حتى لا يتركوا شيئًا ينتفع به المسلمون، كما قال تعالى في تصوير دقيق ومؤثر:

﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ {الحشر: ٢}

اتجه بنو النضير بعد ذلك إلى خيبر وأرض الشام، يجرّون خيبتهم وخسارتهم، بعد أن ضيّعوا العهد الذي كان سيحميهم، وتسببوا لأنفسهم في الإبعاد والذل والهزيمة. لقد سجلت قصة بني النضير درسًا عظيمًا تتوارثه الأجيال: أن الأمان لا يقوم إلا على الوفاء، وأن المجتمع المسلم لا يمكن أن يقبل الغدر والمؤامرة على أمنه واستقراره، مهما كانت قوة الخصم وحصونه.

كما أظهرت هذه القصة روعة عدل النبي ﷺ وإنسانيته، إذ لم يقتلهم رغم خيانتهم، بل أعطاهم فرصة الرحيل بأمتعتهم وأموالهم دون أن يمسهم بسوء، ما داموا تخلّوا عن السلاح. ذلك هو عدل الإسلام، الذي يحمي الحقوق، ويصون العهود، ولكنه لا يسمح أبدًا بطعن الأمة من ظهرها.

شارك

Facebook
Twitter
LinkedIn
X

انـتـظـرونــا قـريـبًـا