أثر وحكمة

مقـالات

April 29, 2025
الوليد بن المغيرة: بين مجد الجاهلية وشهادة القرآن - 37565

لم يكن أحد يُذكر في مكة ويُقال بعد اسمه “هو الرجل” إلا إذا كان الحديث عن الوليد بن المغيرة. وُلد في بيت من أعرق بيوت قريش، بني مخزوم، بيت سادة الحرب والرأي، بيتٌ لم يُعرف عنه إلا السطوة والغنى، فكان الوليد وريث كل هذا وأكثر.

لم يكن ثريًا فحسب، بل كان يُقال عنه إنه أغنى رجل في قريش. ثروته لا تُحصى، وبيته كان مقصد الوفود، وأبوابه لا تُغلق، ولا يُردّ فيها سائل. كان يلبس أفخم الثياب، ويُقال إنه وحده كان يكسي الكعبة عامًا كاملاً من ماله الخاص. حتى اسمه كان يحمل الهيبة: الوليد… الوحيد.

لكن ما ميّزه عن غيره لم يكن ماله، بل لسانه وعقله. كان خطيبًا بارعًا، إذا تكلّم أذهل، وإذا ناقش غلب. يجلس في دار الندوة، مجلس الحكماء، لا كعضوٍ بين آخرين، بل كصوتٍ يُحسم به الجدل. وكلما علت نبرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، ازداد قلق قريش، فاتجهوا إلى الوليد، رجلهم الأقوى، ليُفكر، ليُدير، ليمنع الزلزال الذي بدأ يهزّ أركان جاهليتهم.

كان الوليد ذكيًا بما يكفي ليدرك أن ما يأتي به محمد ليس شعرًا، ولا كهانة، ولا أساطير. سمع القرآن وتأمل فيه، وأُعجب به، وشهد في لحظة صدق داخليّ أنه شيء فوق قدرات البشر. لكنه لم يكن رجلًا سهلاً، بل كان أسيرًا لما صنعه من نفسه. مكانته بين الناس، اسمه، احترامه، سلطته… كل ذلك كان مهددًا إن تخلّى عنه ليسير خلف يتيمٍ من بني هاشم.

فاختار أن يقف ضد ما اقتنع به، أن يُكذّب ما أدرك صدقه، لا لأنه لا يؤمن، بل لأنه لا يريد أن يخسر.

ومن هنا يبدأ الجزء الأخطر من القصة. لم يكتفِ بالصمت، بل بدأ يحرّض قريشًا، ويفكّر في أقسى الطرق لتشويه النبي ودعوته. قال مرة إنه سحر، ومرة إنه شعر، وأخرى إنه خرافة. كل يوم برأي، وكل يوم بكذبة، ليُبقي مظهره متماسكًا أمام قومه، لكن داخله كان في حرب لا تهدأ.

القرآن لم يمرّ عليه مرور الكرام. نزلت فيه آيات تكشف ما أخفاه. في سورة المدثر، جاءت الآيات تروي تاريخه في سطور قصيرة لكنها حاسمة:

  • {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}”

  • لم يأتِ في سيرته أنه أسلم، ولا أنه قاتل في بدر أو أحد، ولا أنه ظهر يومًا كعدوٍ صريح بالسيف، لكنه مات كما عاش: يقف بين قناعة دفنها في صدره، وكبرياء رفض أن ينحني للحقيقة.

  • أما الدنيا التي دافع عنها، فقد أفلت من يده. ومجده الذي خاف عليه، لم يُنقذه من النسيان. وحده القرآن بقي يذكره، لا باعتباره رجلًا عظيمًا، بل شاهدًا حيًا على من باع اليقين بثمن لا يدوم.

وفي قلب هذه المفارقة، نشأ ابنه خالد، الفارس الذي أسلم متأخرًا، لكنه حمل راية الإسلام وكأنه يقاتل ليكفّر عن تاريخ والده. دخل الإسلام بسيفه، وأذهل الدنيا بانتصاراته، حتى لقبه النبي بـ “سيف الله المسلول”

كأن الابن جاء ليقول إن المجد الحقيقي لا يُولد من ثروة ولا نسب، بل من صدق مع الله..

شارك

Facebook
Twitter
LinkedIn
X

انـتـظـرونــا قـريـبًـا