في الأيام الأولى للدعوة الإسلامية في مكة، كان المسلمون قلة مستضعفة، وكانوا يؤدون عباداتهم سرًا خوفًا من بطش قريش، كان المشركون قد سمعوا عن القرآن، لكن لم يكن أحد قد تجرأ على تلاوته علنًا أمامهم
و في أحد مجالس الصحابة، اجتمعوا يتحدثون عن ضرورة إسماع قريش لكلام الله، فقال بعضهم:
“والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟”
كان الأمر خطيرًا، فمن يتجرأ على الجهر بالقرآن سيكون عرضة للأذى الشديد. فاقترح الصحابة أن يكون المتطوع رجلًا ذا عشيرة تحميه إذا أرادت قريش به سوءًا
لكن قبل أن يكملوا حديثهم، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بحزم:
“أنا أفعله.”
نظر إليه الصحابة مترددين، وقالوا له:
“إنا نخشاهم عليك، لست ذا عشيرة تمنعك، نريد رجلًا من قوم لهم سطوة!”
لكنه أصر:
“دعوني، فإن الله سيمنعني.”
في الصباح التالي، بينما كانت قريش في أنديتها حول الكعبة، جلسوا يتسامرون كعادتهم. كان الجو هادئًا، لا أحد يتوقع أن يحدث شيء مختلف هذا اليوم
وفجأة، ظهر عبد الله بن مسعود، وتقدم نحو مقام إبراهيم بثبات، ثم وقف، ورفع صوته يتلو:
“بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
“الرَّحْمَٰنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ”
ساد الصمت للحظات، وكأن قريش قد أصيبت بالذهول. لم يكن هذا شعرًا، ولم يكن كهانة، بل كلمات مختلفة، لها وقع خاص على القلوب.
لكن سرعان ما تحولت الدهشة إلى غضب، وصرخ أحدهم:
“إنه يتلو ما جاء به محمد!”
ثم قاموا إليه مجتمعين، وانهالوا عليه بالضرب، وأسقطوه أرضًا، يركلونه ويصفعونه حتى تورم وجهه ونزف جسده.
بعدما أشبعوه ضربًا، تركوه مرميًا على الأرض، فعاد إلى أصحابه ووجهه مغطى بالكدمات، لكنه كان يبتسم.
قال له الصحابة بقلق:
“هذا ما خشيناه عليك!”
فقال ابن مسعود، وهو يمسح الدم عن وجهه:
“والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن، ولئن شئتم لأعود غدًا وأفعل نفس الشيء!”
لكن الصحابة قالوا له:
“حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.”
هذه القصة ثابتة في “سير أعلام النبلاء” للذهبي، ووردت أيضًا في كتب السيرة الأخرى مثل “سيرة ابن هشام” و”البداية والنهاية” لابن كثير